ولنا هنا ثلاث ملاحظات تفرضها التّفاسير المذكورة وكتب أخرى تناولت أسباب نزول نفس الآية. الملاحظة الأولى: يقول الطّبري أنّ عبد الله بن أبي سرح "أسلم"، ولم يقل أنّه "آمن"، وذلك ليسهل تكفيره في ما يتبع من حكايته. هنا نتذكّر حتما الآية: "قالت الأعرابُ آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إنّ الله غفور رحيم" (الحجرات، 14). يقول الحسين بن مسعود البغوي في تفسير هذه الآية ("معالم التّنزيل" أو"تفسير البغوي"): "حقيقة الإيمان التّصديق بالقلب، وأنّ الإقرار باللّسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانا دون التّصديق بالقلب والإخلاص (...) فالإسلام هو الدخول في السّلم وهو الإنقياد والطاعة، يقال: أسلم الرّجل إذا دخل في السّلم"، ولا أرى هنا إلاّ تلاعبا بالألفاظ، بناء على قول "إنّ الدّين عند الله الإسلام"، وأيضا بالرّجوع إلى الآية 106 من سورة "النّحل" المذكورة أعلاه والتي تستعمل كلمة "إيمانه". فالتّفريق بين فعلي "أسلم" و"آمن" مبني على خلفيّة تبريريّة منافقة تتّخذ اللّغة لإجازة إستعمال هذا الفعل أو ذاك في سياق معيّن بناء على مقياس مضطرب، نتبيّن فساده في المقارنة بين إستعمالات القرآن للّفظين وتبريرات المفسّرين وحتّى في آية سورة "الحجرات" نفسها. فكيف يكون القرآن كلاما إلهيّا وهو على هذه الدّرجة من التّناقض في محتواه؟ فعبد الله بن أبي سرح نراه في سورة "الحجرات" أسلم فقط دون أن يدخل الإيمان إلى قلبه، وفي سورة "النّحل" نقرأ أنّه كفر بالله من بعد إيمانه. فهل نسي إله القرآن ما تقرّه الآية 14 من سورة "الحجرات" من إختلاف بين لفظي "أسلم" و"آمن"؟ أم أنّه لم يكن يعرف، وهو "العليم" والعارف بخفايا النّفس البشريّة، كما يدّعي، هل كان عبد الله بن أبي سرح مسلما فقط أم مؤمنا؟
الملاحظة الثّانية تتمثّل في تأرجح المفسّرين وعدم إجماعهم وإتّفاقهم على هويّة الشّخص الذي نزلت فيه الآية المذكورة من سورة "الأنعام"، فتارة هو عبد الله بن أبي سرح وطورا مسيلمة الكذّاب وفي تفاسير أخرى أشخاص آخرون منهم الأسود العنسي وغيره. فإذا رجعنا إلى "تفسير البغوي" للآية نقرأ ما يلي: قوله عزّ وجلّ: ومن أظلم ممّن إفترى أي إختلق على الله كذبا فزعم أنّ الله تعالى بعثه نبيّا، أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء قال قتادة: نزلت في مسيلمة الكذّاب الحنفي، وكان يسجع ويتكهّن، فإدّعى النبوّة وزعم أنّ الله أوحى إليه، وكان قد أرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسولين، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لهما: أتشهدان أنّ مسيلمة نبيّ؟ قالا: نعم، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: "لولا أنّ الرّسل لا تُقتل لضربت أعناقكما". ويضيف البغوي: "قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بينما أنا نائم إذ أتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبرا علي وأهمّاني فأوحى إليّ أن انفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة" أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب اليمامة مسيلمة الكذّاب." ثمّ يقول: "وقال إبن عبّاس: قوله ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، يريد المستهزئين. وهو جواب لقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا". فكيف تأتي آيات لا يفصح محمّد عن فحواها ومعانيها والمقصود منها فيتركها في مهبّ ريح المفسّرين، يعطيها كلّ مفسّر تفسيرا حسب ما تفتّقت به قريحته في شأنها؟ سيقول بعضهم، في محاولة لإيجاد تبريرات، أنّ القرآن جاء متحدّثا بعموميّات وأنّ المعنيّ بالأمر هو كلّ من يمكن أن يقول "سأنزل مثل ما أنزل الله"، ولكن قولا كهذا ينسف كلّ التّفاسير لأنّها تتحدّث عن أسباب النّزول، لأنّ الأسباب ستكون غير ذات قيمة إذا كان المقصود مجرّد عموميّات، كما ينسف الإدّعاءات بإرتباط الإسلام بالتّاريخ منذ بدايات الدّعوة حتّى نهاية الوحي ويجعل من علم أسباب النّزول (أو شأن النزول، يعرّف بأنّه أحد العلوم الإسلامية المهتمة بمعرفة أسباب نزول آيات القرآن والقضايا والحوادث المتعلقة بها وكذلك وقت ومكان نزول الآية وذلك بغرض معرفة تفسيرها وفهمها فهمًا صحيحًا، ومعرفة الحكمة من الأحكام القرآنية؛ لذا فيعتبر أحد فروع علم تفسير القرآن) أكذوبة وإدعاء سخيفا.
ملاحظة الثّالثة: إذا تجاوزنا الفرق الذي تحدّثنا عنه في الملاحظة الأولى وسلّمنا بأنّ المعني بالأمر في الآية المذكورة هو عبد الله بن أبي سرح، يبقى هناك سؤال. هل أنّ ربّ محمّد لم يكن قادرا على التّنبؤ بما سيحدث مع رسوله من تشكيك وتكذيب إذا ما إتّخذ إبن أبي سرح كاتبا للوحي؟ ألم يكن ربّ محمّد قادرا على معرفة التّحريف الذي طرأ على الوحي حين كتابته والتّفطّن إلى أنّ رسوله كان يملي "سميعا عليما" فيكتبها إبن أبي سرح "عليما حكيما"؟ ولماذا كان محمّد يوافق في كلّ مرّة على النّسخة الجديدة من الكلام ويقول "نعم، سواء"؟ ألا يتعارض ذلك مع إدّعاء أنّ القرآن كان وحيا سماويّا قبل نزوله وأنّه مكتوب في اللّوح المحفوظ؟ فكيف يوافق محمّد على أشياء تخالف ما قاله، وهو الذي قيل فيه "وما ينطق عن الهوى" (النّجم، 3) بمعنى أنّه لا يجتهد ولا يأتي بأشياء من عنده؟ فكيف يجتمع الأمران؟ بل كيف يتجاوز أمر الإجتهاد النّبي إلى كاتب الوحي فيوافق عليه محمّد ويصادق عليه؟ أم أنّ ذلك لا يعدّ تحريفا؟ أم أنّ ما كتبه إبن أبي سرح هو المكتوب في اللّوح المحفوظ والذي أتى به جبريل ويمكن إعتبار ما كتبه كاتب الوحي هذا تصويبا وتصحيحا لخطأ؟ في هذه الحالة، هل الخطأ قام به جبريل حين نقل الوحي أم محمّد حين تلاه على أصحابه؟ ثمّ، ألم يكن ربّ محمّد قادرا على معرفة ما يدور بخلد إبن أبي سرح عندما شكّ في نبوّة رسوله بخصوص سورة المؤمنين؟ لماذا لم ينبّه إليه رسوله في وقته؟ ألم يجلب سكوت ربّ محمّد عن شكّ كاتب الوحي سيلا من التّشكيك كان بإمكانه تفاديه منذ البداية؟ أسئلة كثيرة تثيرها حكاية إرتداد عبد الله بن أبي سرح ومهما كانت الأجوبة عنها فهي أجوبة تزيد في تعميق الشكّ في صحّة نبوّة محمّد وفي قدرات إلهه، إن وجد، وفي المزاعم التي يردّدها الشّيوخ من أنّ القرآن محفوظ لم يقع ولا يمكن أن يقع تحريفه. أفليس الذي ذكرناه، والموجود في كتب الشّيوخ ومفسّري القرآن الأوائل، دليلا على التّحريف الذي ينزّه القرآن نفسه منه في قوله: "إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون" (الحجر، 9)؟ ألا ينسف كلّ ذلك كلّ إدّعاء بأنّ الإسلام دين سماويّ من عند إله عليم وحكيم؟
الملاحظة الثّانية تتمثّل في تأرجح المفسّرين وعدم إجماعهم وإتّفاقهم على هويّة الشّخص الذي نزلت فيه الآية المذكورة من سورة "الأنعام"، فتارة هو عبد الله بن أبي سرح وطورا مسيلمة الكذّاب وفي تفاسير أخرى أشخاص آخرون منهم الأسود العنسي وغيره. فإذا رجعنا إلى "تفسير البغوي" للآية نقرأ ما يلي: قوله عزّ وجلّ: ومن أظلم ممّن إفترى أي إختلق على الله كذبا فزعم أنّ الله تعالى بعثه نبيّا، أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء قال قتادة: نزلت في مسيلمة الكذّاب الحنفي، وكان يسجع ويتكهّن، فإدّعى النبوّة وزعم أنّ الله أوحى إليه، وكان قد أرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسولين، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لهما: أتشهدان أنّ مسيلمة نبيّ؟ قالا: نعم، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: "لولا أنّ الرّسل لا تُقتل لضربت أعناقكما". ويضيف البغوي: "قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بينما أنا نائم إذ أتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبرا علي وأهمّاني فأوحى إليّ أن انفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة" أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب اليمامة مسيلمة الكذّاب." ثمّ يقول: "وقال إبن عبّاس: قوله ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، يريد المستهزئين. وهو جواب لقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا". فكيف تأتي آيات لا يفصح محمّد عن فحواها ومعانيها والمقصود منها فيتركها في مهبّ ريح المفسّرين، يعطيها كلّ مفسّر تفسيرا حسب ما تفتّقت به قريحته في شأنها؟ سيقول بعضهم، في محاولة لإيجاد تبريرات، أنّ القرآن جاء متحدّثا بعموميّات وأنّ المعنيّ بالأمر هو كلّ من يمكن أن يقول "سأنزل مثل ما أنزل الله"، ولكن قولا كهذا ينسف كلّ التّفاسير لأنّها تتحدّث عن أسباب النّزول، لأنّ الأسباب ستكون غير ذات قيمة إذا كان المقصود مجرّد عموميّات، كما ينسف الإدّعاءات بإرتباط الإسلام بالتّاريخ منذ بدايات الدّعوة حتّى نهاية الوحي ويجعل من علم أسباب النّزول (أو شأن النزول، يعرّف بأنّه أحد العلوم الإسلامية المهتمة بمعرفة أسباب نزول آيات القرآن والقضايا والحوادث المتعلقة بها وكذلك وقت ومكان نزول الآية وذلك بغرض معرفة تفسيرها وفهمها فهمًا صحيحًا، ومعرفة الحكمة من الأحكام القرآنية؛ لذا فيعتبر أحد فروع علم تفسير القرآن) أكذوبة وإدعاء سخيفا.
ملاحظة الثّالثة: إذا تجاوزنا الفرق الذي تحدّثنا عنه في الملاحظة الأولى وسلّمنا بأنّ المعني بالأمر في الآية المذكورة هو عبد الله بن أبي سرح، يبقى هناك سؤال. هل أنّ ربّ محمّد لم يكن قادرا على التّنبؤ بما سيحدث مع رسوله من تشكيك وتكذيب إذا ما إتّخذ إبن أبي سرح كاتبا للوحي؟ ألم يكن ربّ محمّد قادرا على معرفة التّحريف الذي طرأ على الوحي حين كتابته والتّفطّن إلى أنّ رسوله كان يملي "سميعا عليما" فيكتبها إبن أبي سرح "عليما حكيما"؟ ولماذا كان محمّد يوافق في كلّ مرّة على النّسخة الجديدة من الكلام ويقول "نعم، سواء"؟ ألا يتعارض ذلك مع إدّعاء أنّ القرآن كان وحيا سماويّا قبل نزوله وأنّه مكتوب في اللّوح المحفوظ؟ فكيف يوافق محمّد على أشياء تخالف ما قاله، وهو الذي قيل فيه "وما ينطق عن الهوى" (النّجم، 3) بمعنى أنّه لا يجتهد ولا يأتي بأشياء من عنده؟ فكيف يجتمع الأمران؟ بل كيف يتجاوز أمر الإجتهاد النّبي إلى كاتب الوحي فيوافق عليه محمّد ويصادق عليه؟ أم أنّ ذلك لا يعدّ تحريفا؟ أم أنّ ما كتبه إبن أبي سرح هو المكتوب في اللّوح المحفوظ والذي أتى به جبريل ويمكن إعتبار ما كتبه كاتب الوحي هذا تصويبا وتصحيحا لخطأ؟ في هذه الحالة، هل الخطأ قام به جبريل حين نقل الوحي أم محمّد حين تلاه على أصحابه؟ ثمّ، ألم يكن ربّ محمّد قادرا على معرفة ما يدور بخلد إبن أبي سرح عندما شكّ في نبوّة رسوله بخصوص سورة المؤمنين؟ لماذا لم ينبّه إليه رسوله في وقته؟ ألم يجلب سكوت ربّ محمّد عن شكّ كاتب الوحي سيلا من التّشكيك كان بإمكانه تفاديه منذ البداية؟ أسئلة كثيرة تثيرها حكاية إرتداد عبد الله بن أبي سرح ومهما كانت الأجوبة عنها فهي أجوبة تزيد في تعميق الشكّ في صحّة نبوّة محمّد وفي قدرات إلهه، إن وجد، وفي المزاعم التي يردّدها الشّيوخ من أنّ القرآن محفوظ لم يقع ولا يمكن أن يقع تحريفه. أفليس الذي ذكرناه، والموجود في كتب الشّيوخ ومفسّري القرآن الأوائل، دليلا على التّحريف الذي ينزّه القرآن نفسه منه في قوله: "إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون" (الحجر، 9)؟ ألا ينسف كلّ ذلك كلّ إدّعاء بأنّ الإسلام دين سماويّ من عند إله عليم وحكيم؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق